تجري الحروب دائماً على مستويات متعدّدة، ومن مساوئ شيوع الاعلام المعولم انّه نشر معه نظرة المستهلك الغربي الى الحروب، حيث تختزل الصراعات في رسالة اعلامية معلّبة، وتنمّط ضمن فئات مألوفة (قضية انسانية، حرب بين أشرار وأخيار، الخ)، ما يُعطي المتلقّي انطباعاً بأنه يعرف ما يدور في هذه الساحات المختلفة ـــ بينما هو لا يلقّن، في الواقع، الا صورة تبسيطية «من الأعلى».الحرب الدائرة اليوم على أرض العراق تختلط فيها الأجندات وألاعيب الأطراف المختلفة، وما الأخبار التي تردنا عنها الا انعكاس لهذه الحسابات؛ غير أنّ وقائع معيّنة، «صلبة» كما يقول الأميركيون، بدأت تظهر على الأرض ولا يمكن تخبئتها، وهي تؤشر الى اتّجاه الأمور.
الوضع الميداني اختلف بالكامل عما كان عليه في الصيف، حين كان تنظيم «الدولة» يزحف في كلّ مكان، وصوّر لنا انّه أصبح على أبواب بغداد. بغداد اليوم لم تعد في خطر، وقد جرى تطهير حزام العاصمة تقريباً من وجود «الدولة»، باستثناء مناطق معينة في محيط ابو غريب. المعركة في جرف الصخر كانت حاسمة ومقدّمة لاسترداد الأنبار، حيث يتقدّم الجيش العراقي والقوى المساندة له في عامرية الفلوجة، ويستعدّون لاقتحام هيت. امّا شمال بغداد، فقد صارت مدينة بيجي، التي تقع في منتصف الطريق بين بغداد والموصل، على وشك السقوط، والقوات العراقية تقاتل في قلبها.
«الدولة الاسلامية»، إذن، تتراجع في كلّ مكان تواجه فيه قوّة جديّة؛ والعراقيون وجدوا توليفة مناسبة في تعاون الجيش مع الميليشيات المساندة، بالاعتماد على الدعم الايراني والروسي، ومن دون اعتذاريات ــ فشباب الميليشيات والتنظيمات العراقية لا يرون انّهم بحاجة إلى إذن اميرٍ خليجي أو موظّفيه حتى يدافعوا عن بلادهم وأرضهم، ويستردوها من براثن السلفية.
بالفعل، فإنّ السلاح الايراني والروسي هو الذي أمّن للقوات العراقية قدرة نارية حقيقية، ووحدات مدفعية وصواريخ تعطيهم ميزة نوعيّة على قوات «الدولة». من الحوامات الروسية التي أرسلت على عجل، الى الراجمات المخصصة لحرب المدن، التي كان أول استعمال لها في جرف الصخر، وقد شوهدت البارحة في الطريق الى بيجي؛ ومن يُرِد للعراق أن يعتمد على التسليح الأميركي الهزيل، فهو ــ فعلياً ــ يرغب في أن يستمرّ «داعش» في حكم حواضرنا وألّا يُهزم.
المعركة لها تبعات ونتائج معقّدة، فإضافة الى هذه الأحلاف والقوى التي تنشأ (والتي لن تنفضّ قريباً)، فإن الحرب تغيّر شكل الأرض، والعديد من القرى والمدن قد تهجّرت وفرغت، والميزان العشائري يتغيّر بحسب نتائج المواجهة. «الدّولة» تُهزم اذاً، ومن يدحرها هو الذي يكتب، بالحديد والدم، تاريخ هذه الأرض ومستقبلها. هذه هي «الحقيقة» الوحيدة اليوم.
5 تعليق
التعليقات
-
إذا الجيش العراقي عم يحقق كلإذا الجيش العراقي عم يحقق كل هذه الإنجازات ضد داعش، لشو إستيراد ١٥٠٠ عسكري أميركي جداد؟
-
عامر محسنمن وين مصادر معلوماتك يا عامر؟ رحت عالعراق و شفت أو إنتو عم تحكي اللي إنت حابب يصير؟ منحكي بعد كم سنة عن اللي كتبتو!
-
مقاومة شعبيةقراءة دقيقة وواقعية وكنت أتمنى من الكاتب استخدام كلمة الحشد الشعبي كما يطلق عليه هنا أو المتطوعون بدل كلمة مليشيات التي لازمت كل القوى المسلحة (الشيعية) التي قاومت الاحتلال وقاومت أيضا ارهاب الزرقاوي ودحرته ببغداد وهي اليوم تلقن برابرة العصر من الدواعش الدروس وتطحنهم بالجبهات وهم مصممون أن لا يعودوا لأهلم حتى يستعيدوا وحدة بلدهم ويفشلوا مؤامرة تقسيمه. إن من يفعل كل هذا ليسوا مليشيات كما تسميهم القوى المعادية بل هم مقاتلون مقاومون يسطرون التاربخ بدمائهم كما يقول عنوان مقالك .
-
كتابات طائفية؟!الكاتب على اطلاع كبير بالعراق، فكلامه لا ينم عن جهل بل عن قصد، فعندما يكتب أن العديد من المدن قد تهجرت أو فرغت من قبل ميليشيات الحكومة، وكيف يتم تهجير الناس، وكيف يريدوا أن يكتب تاريخ ومستقبل مغاير كما فعلوا في بغداد 06-2008، عندما هجر الكثير من الناس المظلومين الى شمال بغداد وغرب العراق(وهم البيئة الحاضنة لداعش اليوم). ندرك في النهاية أن الكاتب متعاطف مع هذه الأفعال الوحشية التي لا تختلف عن أفعال داعش، بوصفه الجرائم بـ"الحقيقة". بعض الحيادية لو سمحتوا.
-
حين نستفيقتكاد كلمة شكرا على بساطتها وعمقها تخجلني كلما قرأت احدى مقالاتك اختيارك للمواضيع والعمق والمباشرة والموضوعية مع الابتعاد عن التنظير ونبش المصطلحات والتسميات الفضفاضة على عقول أغلب المتلقين هي الخلطة السحرية التي تجذبنا وتجعلنا من أشد المتابعين المتعطشين لما تكتب حبذا لو تتوسع أكثر في موضوع الهوية والدول الوطنية علك توقظ بعض النائمين عمدا أو قسرا دام قلمك الحر ودفق أفكارك الغني .